الثلاثاء، 1 يناير 2019

إعتقاد الناس بالمنطق وأهميته للروحانية

على الرغم من وضوح دور المنطق المهم في تقييم أفكارنا وبناءها من حيث الصحة إلا أن أغلب الناس (عدا الفلاسفة) لا يستخدمه بشكل كبير، فهو من الأمور التي يمكن الإستغناء عنها على عكس العلوم الطبيعية (ذات القوانين الجبرية)، فيمكن ترك المنطق والوقوع في الخطأ بشكل متكرر. والإعتقاد بأن المنطق والحقائق كافية لتغيير آراء الناس حول قضية ما يهمل جانب أساسي وهو طبيعة تكوين الإنسان، فالإنسان ليس مكون من الجانب المنطقي فقط بل لديه مشاعر وأحاسيس ومعتقدات مسبقة، وعندما تأتي حقائق أو منطق يشكك بصحة أحد هذه المكونات الآخرى فإن الناس بكل عام يكونون مناعة ضد تقبل المعرفة الناتجة عنه.
وقد إختبرت ذلك بشكل مباشر، أثناء حواري مع بعض الرفاق الروحيين حول أفكار يؤمنون بها، فلا يهم كم من المرات يتم الإثبات لهم بأن فكرة ما هي متناقضة منطقياً في ذاتها ومتناقضة مع أفكار آخرى يحملونها فإن ذلك لا يكون كافياً. سيعتقدون أن هناك شيء ما خاطىء في المنطق كما في العلم، بأن هناك مستوى آخرى من العقل أو ماوراء العقل أو حتى كون موازي حيث يمكن أن تكون أفكارهم فيه صحيحة، سيفعلون أي شيء للتشبث بالأفكار الحالية لديهم وسيفضلون الموت معتقدين بشيء خاطىء على العيش طوال حياتهم بدونه.
وهذا شيء محزن ومخيف في نفس الوقت، إن الأسوء من كون الروحي متعلق بفكرة تناقض الدلائل العلمية هو تعلقه بفكرة تناقض نفسها. ولكن دراسة المنطق ومن بعده الفلسفة لا يهدف في الأساس إلى جدال الآخرين أو إقناعهم بقدر ما هو فحص ذاتي للأفكار التي يعتنقها الشخص وصون لمعرفته. أن يمتلك الروحاني الأداة التي يمكن له إستخدامها لفحص أي فكرة أو بناء إستنتاج يوصله إلى نتائج آخرى هي أداة أساسية للوصول إلى الحقيقة والتي هي الهدف الحقيقي للروحانية.أما جدال الآخرين وتغير أفكارهم فيأتي في المرحلة أقل من حيث الأهمية، فلا ضرر تلحقه فكرة فاسدة في عقل يدرك وجودها، وأيضاً من ناقض نفسه كفانا مؤونة جداله.
إن دراسة المنطق بحدث ذاته وبقوانينه لا يضيف شيء إلى المعرفة بل هو أداة تستخدمها كل العلوم لإنتاج معارفها والتأكد من صحتها، وهنا يأتي دور الفلسفة في توظيف المنطق (والذي يعتبر أحد فروعها) في البحث في شتى القضايا التي تهم الإنسان ووجوده.
و قد إختبرت هذه المسألة بشكل مباشر خلال تجربتي الروحية الممتدة على مدى خمسة عشرة عاماً، ففي تجربتي في مجال طاقة والإسقاط النجمي صادفت الكثير من التمارين والتقنيات التي تتجاهل الإطار النظري التفسيري لكيفية عملها، أو تعتمد على إطار نظري لا يمكن إثباته والتحقق منه، وهذا ما دفعني إلى الإعتماد بشكل مباشر على التجربة والنتائج التي أقوم بتحصيلها بنفسي والبناء عليها تدريجياً، كما إتباع النماذج والمناهج التي تتبع نفس هذا الإسلوب، كالمنهج الذي يقدمه بعض الروحانيين من أمثال روبرت بروس و إيكارت تول، فأعمال مثل هذه تعتمد بشكل كبير على نقل تجربة روحية تعليمية ذات إطار نظري يمكن للإنسان العادي الإستفاده منه دون حشو فلسفي شرقي يجب الإعتقاد به.
بدا هذا النموذج مقنع إلى حد كبير فهو برجماتي إلى حد كبير ويتجنب الخوض في التفسير خارج الإطار العملي، وإن كان يحوي إدعاءات معينة فهي مرتبطة كل الإرتباط بالنتائج العملية التي يمكن تجربتها، ولكن المقارنة لكل التدريبات والتقنيات مع النتائج العلمية الحديثة كشف عن تفسيرات مادية لكل المشاعر والأحاسيس والنتائج التي يتم التحصيل عليها كما تم شرح ذلك في الجزء الأول من الدورة.

قد لا يدرك الكثير من الروحيين أهمية هذا الربط العلمي بالروحانية، ويفضلون التفسير الماورائي الذي يعتقدون به، ولكن الإصرار على ذلك لا يحمل فقط مشكلة في منهجية البحث عن الحقيقة بإستبدال الإثبات العلمي المادي المحسوس بفرضيات وإعتقادات لا يمكن إثباتها، بل يمتد إلى صعوبة الدفاع عن أي نظرية روحية أين كانت، حيث ما يمكن إثباته بدون دليل يمكن رفضه بدون دليل أيضاً وإستبداله بأي فكرة من نفس المستوى، ومثال على ذلك إعتقاد بعض الناس أن الإسقاط النجمي هو من عمل كائنات شيطانية، بأن كل الصور والأحاسيس التي تختبرها خلال تجارب الخروج من الجسد يمكن أن تكون نتيجة إرسال شيطان ما لتلك الصور والأحاسيس إلى عقلك مباشرة، وعلى سخافة ما يبدو عليه هذا الإعتقاد فهو على نفس وزن الإعتقاد بأن تلك التجارب إنما هي من تأثير وأعمال الجسد الأثيري، فحيث أن الإثنين لا يمكن إثبات وجودهما علمياً ومادياً فلا توجد حجة منطقية لإعتماد أحد التفسيرين بدلاً من الآخر. على عكس ذلك القول بالتفسير العلمي للتجربة حيث أن هناك مجال لحركة العقل منفصلاً عن الجسد (لإمتلاكه صورة عن الجسد داخله) في عوالم الفكر والنفس الداخلية، وحيث أنه يمكن مقارنة نتائج قياس نشاط الدماغ ونتائج دراسات علم النفس التحليلي يمكن بناء نظرية ما حول كيفية حدوث تجارب الخروج من الجسد ومقارنة مشاهداتها بما يمكن تحصيله وتحليله بهذه الوسائل العلمية، ومن تطابق النتائج يمكن إستخلاص هذا التفسير العلمي الخالي من الإفتراضات الماورائية، والذي يمكن أيضاً إستخدامه في المناظرة والمحاججة لأي فكرة أو تفسير مضاد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تلخيص كتاب طريق السعادة لسونيا ليوبوميرسكي

في كتابها The How of Happiness تتحدث عالمة النفس سونيا ليوبوميرسكي Sonja Lyubomirsky عن حاجتنا جميعنا كبشر إلى السعادة حتى وإن لم نعبر ع...