الثلاثاء، 8 يناير 2019

أضرار الروحانية التقليدية

1- التوسع المتطرف للأنا
فقد الإحساس بالذات هو شعور محرر للنفس وكما ذكرنا هو ينتج في الدماغ خلال التجربة الروحية بسبب نقص النشاط في الفص الأمامي  Hypofrontality " وما يتبعه من إسكات للصوت الداخلي وذوبان حدود الذات، وفي التجارب الروحية يترجم الأمر بإعتقاد الشخص بأنه يندمج في قوى عليا أو شخصية دينية، ومن ذلك متلازمة القدس (Jerusalem Syndrome) حيث أن الزائر الغير مستعد للمدينة يصاب بإضطراب نفسي يخرجه من الواقع تحت وزن القيمة التاريخية والروحية الكبيرة المحيطة به، وتصيب الحالة في الأساس من كانوا يحملون أفكار دينية عميقة ولكنها من حين إلى آخرى تصيب السائحين العاديين، وهذه الحالة يمكن أن تسمى لدى علماء النفس التوسع المتطرف للأنا (extreme ego inflation)، تبدو تجربة فقد الذات جديدة ومغرية وكأنها لم يتم إختبارها مسبقاً لدرجة أن البعض يعتبرها دليل على تدخل مقدس أو تواصل مع الأرواح. لذا من المهم عند حصول نشوات أو تجارب روحية عدم إتخاذ أي قرارات مهمة في الحياة.
في التجارب الروحية (الحالات الإنتقالية للوعي) يتم إفراز كمبيات كبيرة من الدوبامين بينما يختل النشاط في القشرة الأمامية من الدماغ، وهذا ما يسبب قدرتنا الفجائية على رؤية روابط بين أفكار لم نفكر بها سابقاً، بعض هذه الأفكار يمكن أن يكون إضاءات حقيقية في الفكر و بعضها آخر يمكن أن يكون مجرد نزوات وتجارب تخيلية. في العام 2009 إكتشف عالم الأعصاب بيتر بروغر (Brugger, Mohr, Krummenacher, & Haker., 2010)أن الأفر اد مع كمية كبيرة من الدوبامين في أجسادهم هم أكثر ميلاً للإعتقاد بوجود نظريات المؤامرات والإخطاف من قبل المخلوقات الفضائية، هم يعانون من حالة تسمى الاستسقاط apophenia أي الميل إلى الإنغمار في المصادفات ذات المعنى، ويستطيعون إيجاد أنماط في مواضع لا يراها غيرهم. عندما يتشوش عمل القشرة الدماغية الأمامية (Alvarez و Eugene، 2006) فإن السيطرة على الإندفاعات، التخطيط طويل الأمد، والتفكير النقدي كله يغلق أيضاً، نحن في هذه الحالة نفقد الضوابط العقلية والتوازنات لدينا.إدمج ذلك مع الكمية الكبيرة من الدوبامين في الجسد التي تخبرنا أن الروابط التي تقوم بها هي ذات أهمية كبيرة ويجب التصرف على أساسيها فوراً، عندها ليس من الصعب رؤية كيف يمكن أن نقع في الخطأ في مثل هذه الظروف. لذا ليس مهم كم تتخيل عظمة تجربتك، سيكون من المهم أن تتذكر أنها لا تتعلق بك، يجب أن تخضع هذه التجارب إلى التقدير والتفكير النقدي لاحقاً، وهذا ما لا تشجع عليه الروحانية التقليدية.

2- الضياع في الحاضر
في التجارب الروحية نفقد القدرة على تقدير إقتراب الأشياء من الحدوث بسبب فقد الإحساس بالزمن، في حياتنا الشخصية وفي العالم ، وذلك أيضاً بسبب إختلال عمل القشرة الدماغية الأمامية، في حال النشاط الطبيعي للقشرة الدماغية الأمامية نتمكن من مسح الأحداث في الماضي والمستقبل وتحديد السيناريوهات المتوقة، ونمضي القليل جداً من الوقت في الحاضر، لذا في التجارب الروحية ننغمس بعمق في الحاضر، وهذا ما يزيد من جاذبية وثقل اللحظة.
العديد من الحركات الدينية والروحانية التقليدية من مثل (كنيسة اليوم السابع في العام 1840 و مروجي تقويم المايا في 2012 ) كانت تعطي توقعات حول نهاية العالم وتخفق، لأن مثل هذه التنبؤات قادمة من إستبصارات روحية فقط وليس من أي إستنتاج أو بحث عقلاني حقيقي.
علماء النفس المعاصر أعطوا إسم لهذه الظاهرة إسكوثيجيا (eschatothesia) أو توقّع هلاك العالم، أو توقع حصول حدث هام للغاية في المستقبل القريب، حيث بداية عصر جديد وحيث لا شيء سيبقى كما هو عليه. أي شخص مختبر للظواهر الروحية يقع في مثل هذه الحالة، حيث يحاول جذب التنبؤات المشاهدة في تجربته الروحية إلى الحاضر لغياب الإحساس بالفارق الزمني. ويمكن أن يصيب ذلك أي شخص يختبر حتى لحظات الإلهام من مثل رائد الأعمال الذي ترده فكرة عبقرية لمشروع، والموسيقي الذي يسمع نوتات موسيقية في عقله خلال إحتفال، قد يحتاج الأمر إلى سنوات لتجسيد كل تلك الأحاسيس والأفكار إلى شيء ملموس على الأرض.
إن هذه القدرة على إستلهام المستقبل البعيد هو شيء إيجابي إذا قدرناه في إطاره الزمني الواقعي ولكن مدمر إذا تجاهلنا هذا الإطار وهذا ما يغيب عن بال ممارسي الروحانية التقليدية.
3- مدمن الهناء
مع خاصية غياب الجهد في التجارب الروحية نختبر مجموعة مختلفة من الإفرازات الكيميائية في الجهاز العصبي المركزي، وخاصة تلك المسؤولة عن المكافئة وغمرنا بالإلهامات والتي قد تكون مضللة. حالما يشعر الأفراد بغياب الجهد والراحة في التجارب الروحية  يتصور بعضهم أن الحياة بأكملها هكذا (حالة من الراحة) ويكثر إستعارتهم للمقولة (إنساب مع الكون أو التدفق go with the flow).
غياب الجهد يجعلنا نختبر قمة الأداء العقلي، ككوب ممتلء بالماء حتى وإن كان مثقوب من الأسفل، نشعر بالإكتمال وغياب النقص، ولكن عندما تنتهي التجربة ويقل التدفق العقلي الذي يملء الكوب، كل الماء يذهب في النهاية ونعود مجدداً إلى حيث بدأنا و نعود إلى التدفق الطبيعي للمعلومات والحاجة إلى إتخاذ القرار، هل ننتظر النشوة الروحية التالية لتملء لنا عقولنا وتغمرنا بالمعلومات أم علينا التعامل مع تسرب المعلومات التدريجي والبدء بالعمل الجاد.
إن الإنغمار في النشوات الروحية والتي تصوّر أن كل شيء يمكن القيام به أو التفكير به بسهولة يعد خداع للنفس يمنع الروحاني التقليدي من التفكير بالعمل والإجتهاد في الحياة أو يجعله ينظر بفوقية لها كمظاهر مضادة لطبيعة الوجود السلسة والسهلة في الفهم والعمل. وهذا ما يسبب أيضاً إرتباط الروحانية التقليدية بالفقر والكسل والعزوف عن خوض تحديات الحياة.
4-الذهاب دون عودة
تعتبر الوفرة الخاصية الرئيسية الأخيرة للتجربة الروحية وهي إحساس صاحب التجربة الروحية بالطبيعة الزاهية والمفصلة والكشفية لتلك التجارب، إنه شعور أشبه بإلهام إبداعي ونوع من الاتصال بشيء أكبر من أنفسنا يجعلنا نشعر بأننا نفهم الذكاء الذي يسري في جميع أنحاء الكون. وهو ناتج عن قيام الدماغ بإفراز النوربينيفرين والدوبامين في أجسادنا، هذه المواد الكيميائية العصبية ترفع معدلات ضربات القلب ، وتزيد التركيز ، وتساعدنا على السكون والانتباه،  نلاحظ كمية أكبر من المعلومات، و تصبح عملية ضبط أو تجاهل المعلومات أكثر سهولة، هذا الفيض الهائل من المعلومات قد يوهم الروحاني بأن مصدر تلك المعلومات خارجي، بأنه علامة على الإتصال بعقل كوني لا يخطىء. هذا الإتصال إذا إستمر دون توجيه فهو قد يعمل على إنفصال الروحاني تدريجياً عن العالم الخارجي وإكتفاءه بالداخل، الثقة بالحس والتجربة الداخلية بدلاً من التفكير والمراقبة الخارجية. قد يبدأ الروحاني بالإعتقاد بأنه من الممكن من خلال هذه المعلومات الداخلية فهم كل ما يتعلق بالعالم الخارجي ووصفه وأكثر، بأنه لا داعي في هذه المرحلة التزوّد بأي معلومات خارجية.

 وأسرار اللاوعي هي بئر لا قعر لها، فإذا إنسحب الروحاني من التجربة مبكراً أكثرمن اللازم فإنه دائماً يشعر بشغف نحو الأعماق التي لم يصلها، أما إذا غاص أعمق من اللازم فإنه قد لا يعود أبداً إلى الواقع الذي تركه. إذاً كان اللاوعي فعلاً لانهائياً فالسؤال لن يكون إذا أمكن سبر كل أعماقه بل النقطة التي يمكن الوصول إليها والعودة إلى الوعي الطبيعي دون فقد كل شيء.من المهم سبر أعماق النفس البشرية وإستكشافها ولكن ذلك لا يكون أبداً بديل للتجربة في العالم الحقيقي والتوّسع فيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تلخيص كتاب طريق السعادة لسونيا ليوبوميرسكي

في كتابها The How of Happiness تتحدث عالمة النفس سونيا ليوبوميرسكي Sonja Lyubomirsky عن حاجتنا جميعنا كبشر إلى السعادة حتى وإن لم نعبر ع...