الثلاثاء، 1 يناير 2019

نسبية الحواس والإدراك


 رغم إعتقادنا بأن ما نعيشه هو حقيقي تماماً، إلا أنه من المستحيل علينا إثبات ذلك بشكل مطلق أو الحصول على أي معرفة مطلقة حول أي شيء. الطريقة الوحيدة التي نملكها كبشر هي تفسير الواقع من خلال المعلومات التي نستقيها من حواسنا المادية، من الأعين نستوعب فوتونات الضوء ونرى العالم، من خلال آذاننا، تمتص الإهتزازات في الهواء ونسمع، ومن خلال النهايات العصبية المنتشرة على جلدنا نشعر بالإختلافات في الضغط والحرارة والألم، ومن خلال أنوفنا وألسنتنا، نمتص المواد الكميائية ونميز الرائحة والطع. جميع تلك المعلومات يجب أن تمر في قنواتنا الحسية أولاً قبل أن نستوعب أي مفهوم.
فحواسنا تلعب دور أساسي في فهم في إدراكنا للواقع، وكل كائن يملك مجموعة فريدة من الأجهزة الحسية، وهذا يعني أن كل كائن يختبر العالم ويفسر الواقع من منظوره الفريد والنسبي، على سبيل المثال، الذبابة المنزلية لديها آلية حسية مختلفة في عن تلك الموجودة لدينا، لذا يرى الذباب العالم بشكل مختلف عنا، كما يفسره بشكل مختلف، تماماً كما يرى الذباب العالم من منظوره الطائر نرى العالم من منظورنا البشري الخاص. وفي حين تكون الذبابة معرفة الذباب، يكون البشر المعرفة البشرية.
وكما لا يمكن للذبابة أن تمتلك إلا معرفة الذباب لا يمكن للبشر أن يمتلكوا إلا المعرفة البشرية. وإختبارنا للواقع ليس أفضل أو أكثر حقيقة من إختبار الذبابة له. ببساطة الأمر نحن والذباب نقع في عالمين مختلفين.
علاوة على ذلك ليست الحواس وحدها من يقرر كيف نختبر الواقع بل أيضاً الطريقة التي تعالج بها أدمغتنا المعطيات الحسية، وبنفس القدر. على سبيل المثال، عندما نرى تفاحة، تتساقط فوتونات الضوء المنعكسة منها ويتم إلتقاطها من قبل شبكية العين لدينا، ثم يتم تحويل تلك المعلومات إلى إشارات عصبية تعالج في الدماغ، بالتالي ما نطلق عليه حقيقي ما هو إلا تيارات عصبية يفسرها الدماغ، وبنفس الطريقة عندما نأكل أو نشم أو نتذوق التفاحة، دمج كل هذه الإنطباعات الحسية في خبراتنا تتحول إلى إدراك متماسك للتفاحة ووجودها. بدون وجود الدماغ الذي يقوم بترتيب ودمج كل هذه الإنطباعات معاً من المستحيل أن نفهم تجاربنا، ولأن لكل كائن حي آلية عصبية (لمعالجة المعطيات الحسية) مختلفة عن الآخر، فإن كل كائن حي يجب أن يفسر الواقع من منظوره الفريد والنسبي. وليس الأنواع المختلفة تدرك وتفسر الواقع من وجهة نظرها الفريدة، بل أيضاً كل فرد داخل النوع الواحد، أي أن كل فرد توليفة فريدة خاصة به من أعضاء الحواس - مزيج خاص به فريد من الأذنين والعينين والأنف والفم والجلد. بعبارة أخرى ، لا يوجد اثنان من البشر يمتلكان نفس المجموعة من مستقبلات الإحساس، على سبيل المثال، بما أن الميكانيكا الفيزيائية لعيني تختلف قليلاً عن جاري سأختبر اللون الأحمر بشكل مختلف عما يفعل. في مثال أكثر تطرفًا ، فإن الشخص المصاب بتلف في المستقبلات المخروطية ، أي مصاب بعمى الألوان ، سيختبر اللون الأحمر الفاتح مثل لون رصاصي أو رمادي. كل فرد يرى العالم من منظوره الفريد ، لأن لديه توليفة خاصة من الأعضاء الحسية، وكذلك الأمر بالنسبة لمعالجة المعلومات الحسية أو الدماغ. مثلما لا يمتلك شخصان نفس العينين، لا يمتلك شخصان نفس الدماغ بالضبط. لذلك ، لا يقتصر الأمر على كل فرد في إكتساب بيانات حسية بشكل مختلف ، ولكن أيضاً كل واحد منا يقوم بتفسر تلك البيانات نفسها بطريقته الفريدة. بالإضافة إلى هذه العوامل ، يجب علينا أيضًا أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن كل فرد يعيش مجموعة فريدة من تجارب الحياة. كما أن هذا ، سيؤثر على التطور المعرفي للمرء ، فإنه يؤثر أيضا على الطريقة التي يفسر المرء الواقع. هناك بالتالي ثلاثة متغيرات تحدد الطريقة التي يفسر بها كل نوع (وكذلك كل فرد داخل كل نوع) الواقع. وتشمل هذه الطبيعة الفيزيائية لأعضاء الحواس  للكائن الحي ، والطبيعة الفيزيائية للمعالج لتلك البيانات الحسية (الدماغ) ، ومحتوى تجاربه الحياتية.

مع وضع هذه المتغيرات الثلاثة في الاعتبار ، دعونا نتخيل أن إثنين من كل من، الذباب ، الشمبانزي والبشر ، كلها هؤلاء يرون نفس مشهد غروب الشمس. وبما أن كل واحدة من هذه الكائنات الفردية تمتص ثم تعالج طاقة الضوء المشع من الشمس بأسلوبها الفريد ، فكيف يمكن أن نحدد أي من هذه التجارب لغروب الشمس هو الأكثر واقعية أو "حقيقية"؟ ما الكائن الذي يمكن أن يدعي بأنه يرى غروب الشمس "الحقيقي"؟ أي كائن حي يمكن أن يقول إن خبرته وتجربته لللون الأحمر هي الأصيلة؟ اللون الأحمر هو بناء من صنع الإنسان لا علاقة له بالكون المادي الفعلي ، ولا بواقع الأنواع الأخرى من الحياة. على الرغم من أننا قد نقوم بتفسير لون الشمس في الغروب بأنه أحمر ، فإن غروب الشمس "في حد ذاته" ليس كذلك. هذه هي الطريقة التي يتعامل بها عقلنا مع طول موجي معين (ستمائة نانومتر) من الضوء عندما يقع على شبكتنا. أي أننا يجب أن ندرك أن تجربتنا في جوهرها ، لا يمكن أن تصور الواقع إلا بقدر ما تمكننا البيولوجيا الخاصة بنا من القيام بذلك. وبما أن كل واحد منا ينظر إلى العالم من منظورنه الفريد والنسبي ، فإن كل المعرفة يجب أن تكون نسبية أيضًا. على حد تعبير "عمانوئيل كانط" ، من المستحيل معرفة "الأشياء في حد ذاتها" ، بل بالأحرى "الأشياء كما نراها". وبالتالي ، من المستحيل أن نعرف أي شيء على وجه اليقين المطلق. بدلاً من ذلك ، لا يمكننا أن نعرف الأشياء إلا مع يقين نسبي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تلخيص كتاب طريق السعادة لسونيا ليوبوميرسكي

في كتابها The How of Happiness تتحدث عالمة النفس سونيا ليوبوميرسكي Sonja Lyubomirsky عن حاجتنا جميعنا كبشر إلى السعادة حتى وإن لم نعبر ع...